ما تزال أصداء زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة “نانسي بيلوسي” إلى تايوان شهر أغسطس الماضي (أرفع سياسي أمريكي يزور الجزيرة منذ 25 عاما)، مستمرة، حيث تواصل الصين منذ ذلك الحين إجراء مناورات عسكرية توصف بالأكبر لها في المياه المحيطة بتايوان.
وتعتبر الصين جزيرة تايوان جزءا لا يتجزأ من أراضيها، ولا تخفي نيتها لاستردادها وفرض السيادة الكاملة عليها بالقوة إذا أصرت على الانفصال، في الوقت الذي تتهم فيه بكين واشنطن بالوقوف وراء “الانفصاليين” هناك.
بدورها، التزمت واشنطن دائما بما يمكن وصفه بالسير على “حبل دبلوماسي مشدود” حيال مسألة تايوان، حيث تلتزم من جهة بسياسة الصين الواحدة التي تعتبر حجر الزاوية في علاقاتها مع بكين، أي أنها تعترف بأن هناك حكومة صينية واحدة فقط، وتقيم علاقات دبلوماسية رسمية مع بكين وليس تايوان.. لكنها تحتفظ من جهة أخرى بعلاقات وثيقة مع تايوان وتبيعها أسلحة بموجب قانون العلاقات مع تايوان، الذي ينص على أنه يتعين على الولايات المتحدة تزويد الجزيرة بوسائل للدفاع عن نفسها.
وتمثلت آخر نوبات غضب بكين من زيارة بيلوسي واستمرار الدعم الأمريكي لتايوان نهاية الشهر الماضي حينما نفذت الصين واحدة من أكبر عمليات التوغل التي قامت بها حتى الآن في المياه والأجواء حول تايوان، حيث تشير البيانات إلى أن 71 طائرة من سلاح الجو الصيني، من بينها طائرات مقاتلة ومسيرة، اجتازت ما يسمى بخط الوسط (منطقة عازلة غير رسمية تفصل بين الطرفين داخل منطقة الدفاع الجوي).
وذكرت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية أنه إلى جانب التحذيرات الصينية من المزيد من الأعمال الانتقامية العسكرية، زادت بكين أيضا من مخزونها من الرؤوس الحربية النووية، ونشرت مؤخرا سلاحا فريدا من نوعه، لاستعراض القوة ضد الوجود الأمريكي بالمنطقة، وهو “مركبة انزلاقية تفوق سرعتها سرعة الصوت يتم إطلاقها من الأرض، وهي مضادة للسفن، وتحمل صواريخ جديدة من طراز “دي إف- 17 ” (DF-17)، التي توصف بـ”قاتل حاملات الطائرات”. كما دشنت الصين حاملة طائرات ثالثة، وواصلت تحديث جيشها.
وفي غضون ذلك، تواصل الولايات المتحدة مناقشة أفضل السبل للحفاظ على الوضع الراهن في المنطقة، ودعم الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي، والمعروف أن السياسة الحالية لواشنطن هي سياسة “الغموض الاستراتيجي”، وهي نظرية تؤكد أنه من الأفضل إبقاء جميع الأطراف في حالة تخمين ما إذا كان الجيش الأمريكي سيتدخل في حرب عبر مضيق تايوان وإلى أي مدى ومستوى سيكون هذا التدخل، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ما زالت هذه هي الاستراتيجية المناسبة لردع بكين؟ أم ينبغي على واشنطن أن تلتزم علنا بالدفاع عن تايوان؟.
ويُفهم الغموض الاستراتيجي عادة على أنه خلق حالة من عدم اليقين المتعمدة لدى بكين وتايبيه بشأن ما إذا كانت الولايات المتحدة ستتدخل في الحرب، ويُفترض أن هذا الغموض يخلق رادعا مزدوجا: التهديد بالتدخل الأمريكي يمنع الصين من غزو تايوان، والخوف من التخلي الأمريكي يمنع تايوان من إشعال حرب من خلال إعلان الاستقلال والانفصال عن الصين، وقد حافظ هذا النهج، وفقا للمؤيدين، على السلام لعقود من الزمان في منطقة شبه جزيرة تايوان، ومنع الوقوع فيما يصفه البعض بـ “الفخ”، أو جر الولايات المتحدة عن غير قصد إلى الحرب مع الصين.
ووفقا للعلوم السياسية، يعتبر الغموض الاستراتيجي شكلا من أشكال الردع المحوري، حيث تمنع دولة واحدة دولتين أخريين من خوض حرب ضد بعضهما البعض. لكن هذا الردع لا يعمل إلا في ظل شروط من بينها: أن يمتلك المحور (الولايات المتحدة في هذه الحالة) قوة عسكرية حاسمة على الخصوم (الصين وتايوان)، وأن يرغب كلا الخصمين في الحرب أكثر مما يريده المحور. وعليه، يمكن للمحور أن يحرك قوته الحاسمة ضد أي بلد يزعج الوضع الراهن.
ولكن بالنسبة للوضع الراهن في مضيق تايوان، فإن الحالات سالفة الذكر لا تنطبق عليه. فقد زادت الميزانية العسكرية الصينية بمقدار خمسة أضعاف منذ عام 2001، حيث تضم الآن أكبر قوة صاروخية في العالم، وثاني أكبر قوة بحرية، وثالث أكبر قوة جوية. ووفقا لتقرير مؤسسة Rand البحثية الصادر عام 2017، فإن الصين تمتلك بالفعل تكافؤا مع القوات الأمريكية أو حتى ميزة عليها في خمس من تسع مناطق تشغيلية في سيناريو تايوان. ومن هذا المنطلق، فإن الولايات المتحدة في نظرية الردع، لم تعد محورا.
وبالنسبة للنقطة الثانية (رغبة الخصمين في الحرب)، فإن القوة الصاعدة لبكين تمنع المغامرات التايوانية. وتايبيه من جانبها لا تريد الحرب لأنها تعلم أنها ستكون أول من يعاني من انتقام بكين. فضلا عن ذلك، لم يدافع أي سياسي تايواني كبير عن إعلان الاستقلال عن الصين منذ عام 2005. كما أن زعيم تايوان لا يتمتع بأي سلطة دستورية لإعلان الاستقلال من جانب واحد، فيما تفضل الأغلبية الراسخة استمرار الحفاظ على الوضع الراهن خوفا من أي انتقام عسكري صيني.
كما أنه مع زيادة القدرات العسكرية لبكين، تعثر الردع المحوري (لواشنطن) بشكل مطرد. ففي عام 1996، أطلقت بكين صواريخ فوق جزيرة تايوان احتجاجا على خطاب لزعيم تايوان بالولايات المتحدة، لكنها تجنبت المزيد من الاستفزازات بعد أن حركت واشنطن حاملتي طائرات للإبحار عبر مضيق تايوان. ولكن بعد رحلة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي إلى تايوان أغسطس عام 2022، ردت الصين بمناورات عسكرية هي الأضخم لها حول الجزيرة. واقتصر رد فعل واشنطن على التنديد والشجب اللفظي فقط.
ورغم هذه التغيرات على الأرض، يتشبث مؤيدو سياسة الغموض الاستراتيجي بموقفهم، وهو ما يرجع في جزء كبير منه إلى قلقهم من أن الضمان الأمني غير المشروط سيمكن تايوان من جر الولايات المتحدة إلى شن حرب ضد الصين. ولكن حقيقة الأمر، فإن الوقوع في فخ كهذا ليس منطقيا مع الولايات المتحدة، التي يمكنها وضع صياغات لغوية في أي اتفاق دفاعي مشترك مع تايوان يمكنها من التحرر من أي قيود قد تفرضها عليها تايبيه حال قررت منفردة اللجوء للحرب.
علاوة على ذلك، فإن الغموض الاستراتيجي لا علاقة له إلى حد كبير بما إذا كانت الصين ستقرر مهاجمة تايوان أم لا، حيث يرى السيناتور الأمريكي كريس مورفي أن الصين تفترض في خططها العملياتية أن واشنطن ستتدخل، وأن الولايات المتحدة وقوة الحلفاء -وليس الغموض الاستراتيجي- هو ما يردع الصين. لذا، فإذا كان من المرجح أن يردع أي شيء العدوان الصيني المحتمل ضد تايوان، فسيكون بلا شك عبر المزيد من التحسينات على أمن الجزيرة.
وتؤكد “فورين بوليسي” أنه يجب أن تحصل تايبيه على دعم أمني صريح من الولايات المتحدة، وأن مبيعات الأسلحة تدخل ضمن أوضح وأقوى مؤشر على هذا الدعم.
ومع ذلك، يتفق المحللون على أن أفضل استراتيجية لتايوان هي وضع خطة دفاع شاملة، تقوم على زرع الألغام في شتى أنحاء الجزيرة ونشر الصواريخ المضادة للسفن والطائرات والمركبات، لتعطيل الهجوم الصيني وتوفير الوقت لحين وصول الجيش الأمريكي. إلا أن البعض يرى أن المعدات المتطورة لدى تايوان مثل طائرات F-16 والدبابات الثقيلة والغواصات ستكون غير مجدية لهذه المهمة؛ إذ من المحتمل أن يتم تدميرهم في أي وابل افتتاحي للغزو الصيني.
بالطبع، يخلق هذا الوضع مشكلة للولايات المتحدة سيما في ظل التشكك في نوايا واشنطن حيال التدخل والمساعدة حال تطور الأوضاع في تايوان. فعلى سبيل المثال، قال الزعيم التايواني السابق “ما ينج جيو” في تصريح سابق “الأمريكيون.. سيبيعوننا أسلحة ويزودوننا بالمعلومات الاستخبارية، لكنهم لن يرسلوا قوات”.
لا شك أن تنامي مثل هذه الشكوك من شأنه أن يدفع نحو فقدان واشنطن شريكا مهما في المنافسة الاستراتيجية مع الصين. ويمكن أن تستفيد بكين من الوضع الراهن بأن تستخدم تايوان لإبراز قوتها في المحيط الهادئ، وخنق الدعم الأمريكي لليابان وكوريا الجنوبية، والسيطرة على الفلبين، وزيادة تعزيز سيطرتها على بحر الصين الجنوبي.
ووفقا لفورين بوليسي، يبدو أن الغموض الاستراتيجي أوقع الولايات المتحدة وتايوان في معضلة كبيرة، حيث تريد واشنطن من تايبيه زيادة الإنفاق الدفاعي ووضع استراتيجية دفاعية خاصة بها قبل تقديم التزامات أخرى غير محددة. وبالفعل، تنفق تايوان نسبة أكبر من ميزانيتها الحكومية على الدفاع، لكنها تريد في المقابل التزاما دفاعيا واضحا من الولايات المتحدة، خاصة وأن إرادة سكان جزيرة تايوان للقتال ستزداد بشكل كبير إذا حصلوا على مثل هذا الالتزام. لذا، فإن المعضلة تتمثل في أن استراتيجية كل جانب تعتمد على تصرفات الطرف الآخر، وكل جانب عالق في انتظار الآخر بينما تواصل الصين تحديث جيشها.
وترى المجلة الأمريكية أن الوضوح الاستراتيجي قد يوفر طريقة للخروج من هذه المعضلة، ولكن يجب مراعاة تنفيذ أي تحول في السياسة ذات الصلة بعناية كبيرة. فعلى سبيل المثال، توضح معركة أوكرانيا الناجحة ضد الغزو الروسي كيف يمكن للأسلحة المناسبة المقترنة باستراتيجية فعالة هزيمة قوة ساحقة، وكل ذلك بتكلفة قليلة نسبيا للولايات المتحدة وحلفاء الناتو الآخرين. إذا، فالوضوح الاستراتيجي –وفقا للمجلة- من شأنه أن يزيل العقبات السياسية التي تمنع تايوان حاليا من تبني موقف مماثل لأوكرانيا، ومن شأنه أيضا أن يعزز المصالح الأمريكية من خلال تحسين دفاع تايوان، وتقليل مخاطر نشوب حرب أوسع، ناهيك عن احتواء الصين.
مصدر : بوابة الأهرام